قصّةُ سيِّدِنا سليمانَ عليهِ السلامُ معَ بِلقيسَ وعرشِها
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهدِيهِ ونشكرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شرِيكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضِدّ ولا نِدّ لهُ، ولا شكلَ ولا صورةَ لهُ، ولا أعضاءَ ولا جثّةَ لهُ، فمن زعمَ أنّ اللهَ في شىءٍ أو من شىءٍ أو على شىءٍ فقد أشركَ، إذْ لو كانَ على شىءٍ لكانَ محمولاً ولو كانَ في شىءٍ لكانَ محصورًا ولو كانَ من شىءٍ لكانَ مُحْدَثًا أيْ مخلوقًا، وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ، صلّى اللهُ عليهِ صلاةً يقضي بها حاجاتِنا ويفرِّجُ بها كُرُباتِنا ويكفينا بها شرّ أعدائنا وسلّمَ عليهِ وعلى ءالِهِ سلامًا كثيرًا.
أما بعدُ عبادَ اللهِ، فإنِّي أوصِيكُمْ ونفسي بتقوى اللهِ العليِّ القديرِ وبالثّباتِ على دينِ الإسلامِ العظيمِ الذي جاء بهِ كلُّ الأنبياءِ والمُرسلينَ وأيّدَهُمُ اللهُ تعالى بالمعجِزاتِ الباهراتِ التي تدُلُّ عَلى صِدْقِ الأَنْبِياءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ وُجوبِ الإِيمانِ باللهِ وعبادَتِهِ وحدَهُ منْ غيرِ إشراكٍ بهِ، ووجوبِ طاعتِهِمْ فيما يأمرونَ النّاسَ بهِ. وكنّا بدأنا بفضلِ اللهِ تباركَ وتعالى علينا بسِلْسِلَةٍ من الخُطبِ تحدّثنا فيها عن نبيٍّ اللهِ سيِّدِنا سليمانَ بنِ داودَ عليهِما الصّلاةُ والسّلامُ الذي رزقه الله تعالى النُّبُوَّةَ والمُلْكَ وأعطاهُ مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ منْ بعدِهِ . سيِدُنا سليمانُ عليهِ السّلامُ الذي كانَ كَكُلِّ الأنبياءِ منْ ذوي الفَطانَةِ والذّكاءِ وحُسْنِ التَّدبيرِ والسِّياسةِ.
وأخبرناكُمْ في الجُمُعةِ الماضيةِ أنّ سليمانَ رَدّ الهدايا التي أرسلتْها بِلقيسُ وأخبرَ رُسُلَها أنّه مصَمِّمٌ على المجئ إليهم، وما هدفُ سليمانَ منْ ذلكَ إلا نشرُ دينِ الإسلامِ العظيمِ، ولَمّا رجعَ رسولُ بِلقيسَ إليها وقصّ عليها ما شاهدَ منْ عَظَمةِ مُلكِ سليمانَ قالت: "هو نبيٌّ وما لنا بهِ طاقةٌ " ثمّ جعلتْ عرشَها في ءاخرِ سبعةِ أبياتٍ (جمعُ بيتٍ) وغَلَّقَتِ الأبوابَ ووكّلَتْ بهِ حرسًا يحفظونَهُ (وهو سريرٌ عظيمٌ كبيرٌ قيلَ كانَ ثمانينَ ذراعًا في ثمانينَ ذراعًا وطولُه في الهواءِ ثمانونَ ذراعًا ، أي قريب الـ 40 مترًا بـ 40 مترًا أي قريب بنايةٍ مؤلفّةٍ من 14 طابقًا وكانَ من ذهبٍ وفِضّةٍ وكانَ مرَصّعًا بأنواعِ الجواهرِ وقوائمُهُ منْ ياقوتٍ أحمرَ وأخضرَ ودُرٍّ وزُمرُّدٍ) وبعثتْ إلى سليمانَ "إنّي قادمةٌ إليكَ لأنظرَ ما الذي تدعو إليه". وذهبتْ إليه في اثنيْ عشرَ ألفِ قَيْلٍ، والقَيْلُ هو دون الملكِ تحت كلِّ واحدٍ ألوفٌ ، فلمّا بلغتْ على رأسِ فرسَخٍ من سليمانَ، وعلِمَ سليمانُ عليهِ السّلامُ بقُدومِها شَيّد لها قصرًا عظيمًا من زجاجٍ وجعلَ في ممرِّه ماءً وجعلَ عليهِ سقفًا من زجاجٍ وجعلَ فيهِ السّمكَ وغيرَه منْ دوابِّ الماءِ بحيثُ يُخيّلُ للنّاظرِ أنّه في لُجّةٍ منَ الماءِ . (أي بحرٍ من الماء). وأرادَ سليمانُ عليهِ السّلامُ أنْ يُظهرَ لبِلقيسَ من دلائلِ عظمتِهِ وسلطانِهِ ما يُبهِرُها وأنْ ترى بعينِها ما لمْ ترَهُ منْ قبلِ قطُّ وهو أنْ يأتي بعرشِها إلى قصرِهِ ليكونَ جُلوسُها عليهِ في ذلكَ الصَّرْحِ العظيمِ دليلاً باهرًا على نبوّتِهِ لأنّها خلّفتْهُ في قصرِها واحتاطتْ عليهِ . يقول اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ إخبارًا عنْ عبدِهِ ونبيِّهِ سليمانَ: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾ الآية سورة النمل ءاية: 38-39-40
العِفريتُ منْ كبارِ مَرَدَةِ الشياطينِ وهمُ الذينَ يقدِرون على حَملِ الأشياءِ الثّقيلةِ حتى أكثرُ منْ مؤمني الجنِّ ، عندهُمُ القُوّةُ أكثرُ. أرادَ سليمانُ عليهِ السّلامُ أنْ يُرِيَها بذلكَ بعضَ ما قصّهُ اللهُ تعالى بهِ من إجراءِ العجائِبِ على يدِهِ ما يشهدُ لنبُوّةِ سليمانَ، قالَ عِفريتٌ منَ الجنِّ وهو الخبيثُ المارِدُ واسمُه ذَكْوَانُ ، وقيلَ اسمُهُ صَخْرٌ (منْ تفسيرِ البَيْضاويِّ "أنوارُ التّنْزيلِ وأسرارُ التّأويلِ" عبدِ اللهِ بنِ عمرَ المتوّفى سنة 658 هـ) : "أنا ءاتيكَ بهِ قبلَ أنْ تقومَ منْ مجلِسِ حكمِكَ وقضائكَ (أيْ في مدّةٍ قصيرةٍ لا تتجاوزُ نصفَ نهارٍ ، والله أعلمُ كمْ كانتْ مدّةُ مجلِسِهِ) وءاتيكَ بهِ كما هوَ لا ءاخذُ منهُ شيئًا ولا أبدِّلُهُ" . وكانَ مجلسُ سليمانَ عليهِ السلامُ في فِلِسطينَ وعرشُ بِلقيسَ في اليمَنِ في سَبَإٍ.
فقالَ سليمانُ عليهِ السّلامُ: "أريدُ أعجلَ منْ هذا" ، قالَ الذي عندَه علمٌ من الكتابِ وهو ءاصف بنُ برخيا كاتِبُ سليمانَ وابنُ خالتِهِ وكانَ من أولياءِ اللهِ قال: "أنا ءاتيكَ بهِ قبلَ أنْ يرتَدَّ إليكَ طرْفُكَ" أي أنّك ترسلُ طرْفَكَ إلى شىءٍ فقبلَ انْ تَرُدَّهُ أبصرْتَ العرشَ بينَ يديكَ ، وهذا غايةٌ في الإسراعِ.
ويُروى أن ءاصفَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ لسيِّدنا سليمانَ عليهِ السّلامُ: "مُدّ عينيْكَ حتى ينتهي طرْفُكَ" فمدّ عينيْهِ فنظرَ نحوَ اليمَنِ فدعا ءاصِفُ ربّهُ، دعا الله تعالى القادر على كلِّ شىءٍ فغارَ العرشُ في مكانِهِ (أيْ سَفَلَ في الأرضِ) ثُمّ نبعَ عندَ مجلِسِ سليمانَ بقدرةِ اللهِ تعالى قبلَ أنْ يرتدّ طرْفُهُ، فلمّا رءاه سليمانُ مستقِرًّا عندَهُ قالَ: "هذا (أيْ حصولُ مرادي وهو حضورُ العرشِ قبلَ ارتدادِ الطّرْفِ) من ْ فضلِ ربِّي عليّ وإحسانِهِ إليَّ ".
وأمرَ سليمانُ عليهِ السّلامُ بِلقيسَ بدخولِ القصْرِ، فلمّا دخلتْ ورأتْ الدّلائِلَ الباهرةَ والخوارقَ العجيبةَ أعلنَتْ إسلامَها وتبرّأتْ مِمّا كانتْ عليهِ من عبادتِها للشّمسِ والقمرِ منْ دونِ اللهِ . يقول الله تعالى حكايةً عن بِلقيسَ : ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآية . سورة النمل/44.
وبعدَ أنْ أسلمَتْ بِلقيسُ ودخلَتْ تحتَ سُلطانِ سليمانَ عليهِ السّلامُ يقالُ إنّهُ تزوّجَها وأقرّها على مَمْلَكَةِ اليمنِ.
اللهمّ يا مالِكَ المُلْكِ ثبِّتنا على دينِ الإسلامِ العظيمِ وانفعْنا بِبَرَكَةِ الأنبياءِ والأولياءِ والصالحينَ يا أرحمَ الراحمينَ يا الله. هذا وأستغفِرُ اللهَ لِي وَلَكم.
الخطبة الثانية:
إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونفسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ. واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيُّها الناسُ اتَّقـوا رَبَّكـُم إنَّ زلزَلَةَ الساعَةِ شَىءٌ عَظِيمٌ يومَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى ومَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ﴾، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فبجاه محمّد استجبْ لنا دعاءَنا، اللهم بجاه محمّد اغفرِ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.